تكشف استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الصادرة في نوفمبر 2025 عن تحول عميق في الطريقة التي تنظر بها واشنطن إلى العالم، وخصوصاً إلى الشرق الأوسط وإفريقيا. فالوثيقة التي تحدد أولويات القوة العظمى الأكثر تأثيراً لا تتعامل مع الصومال بوصفه دولة مركزية تُذكر بالاسم، لكنها تضعه عملياً في قلب شبكة من الدوائر الاستراتيجية التي تتقاطع فيها مصالح الولايات المتحدة بصورة لا يمكن تجاهلها. ولعل أهم ما يميز الصومال، ويجعله دولة تتقاطع عندها الاستراتيجيتان الأمريكية في الشرق الأوسط وإفريقيا معاً، هو أنه دولة ذات بعد ثنائي فريد: إفريقي من حيث الجغرافيا والانتماء القاري، وعربي–إسلامي من حيث الهوية والثقافة والتاريخ، ما يجعله ينتمي إلى فضاءين استراتيجيين تتحرك فيهما واشنطن بطرق مختلفة، لكن بأهداف مترابطة. وبذلك يصبح الصومال ساحة تلتقي فيها أولويات واشنطن في الإقليمين، سواء تعلق الأمر بأمن البحر الأحمر، أو مكافحة الإرهاب، أو منافسة القوى الدولية، أو توسيع نطاق اتفاقات إبراهيم.
تتجه الولايات المتحدة، وفق هذه الاستراتيجية، إلى التخلي عن نموذج “التدخل المباشر” الذي طبع سياستها بعد 11 سبتمبر، لصالح مقاربة أكثر رشاقة تقوم على الشراكات الاستثمارية والأمنية منخفضة الكلفة. تؤكد الوثيقة أن أمريكا تريد الانتقال في إفريقيا من علاقة قائمة على المساعدات إلى علاقة قائمة على التجارة والاستثمار، مع الامتناع عن أي وجود عسكري طويل الأمد. وهذا يضع الصومال أمام معادلة واضحة: واشنطن لم تعد ترى في الصومال مهمة بناء دولة، بل ساحة لإدارة مخاطر الإرهاب وتأمين الممرات البحرية ومواجهة نفوذ خصومها العالميين. وفي الوقت ذاته، يمنح موقع الصومال الجغرافي واشنطن ما تحتاجه تماماً في لحظة يعاد فيها رسم خريطة النفوذ بين البحر الأحمر والمحيط الهندي، حيث يشكل الساحل الصومالي الطويل أحد مفاتيح التحكم بالملاحة العالمية من الخليج إلى قناة السويس، ويجعل الصومال دولة لا يمكن إخراجها من حسابات أي قوة تريد التأثير في أمن المنطقة أو اقتصادها.
البعد العربي–الإسلامي للصومال لا يقل أهمية عن بعده الإفريقي. فالصومال عضو في جامعة الدول العربية، وامتداد ثقافي–ديني طبيعي لمنطقة الخليج واليمن، ومن جهة أخرى هو بلد إفريقي محوري في القرن الإفريقي والبحر الأحمر. ولهذا فإن أي مشروع أمريكي يهدف إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط، أو توسيع اتفاقات إبراهيم لتشمل دولاً عربية وإسلامية جديدة، لا يمكن أن يتجاهل دولة مثل الصومال، حتى إن لم تكن واشنطن تتوقع منها تطبيعاً سياسياً على المدى القريب. فالتطبيع في نسخته الجديدة لم يعد مجرد اتفاقات سياسية، بل بات منظومة اقتصادية–أمنية تشمل الطاقة والموانئ والممرات البحرية والتكنولوجيا الدفاعية. والصومال، بموقعه وبعمقه العربي والإسلامي، يصبح جزءاً موضوعياً من هذه المنظومة، حتى لو لم ينخرط فيها رسمياً.
وفي السياق نفسه، تؤكد الوثيقة أن واشنطن تعتبر أمن البحر الأحمر أحد أعمدة مصالحها الدائمة، إلى جانب ضمان عدم سيطرة قوى معادية على الممرات البحرية الحيوية. هذا يعني أن الصومال، بحكم موقعه على خليج عدن وباب المندب والمحيط الهندي، حاضر في كل حسابات الأمن البحري الأمريكي. فاستقرار الصومال جزء من استقرار البحر الأحمر، والعكس صحيح. وهذا يفسر اهتمام واشنطن المتزايد بتقوية قدرات خفر السواحل الصومالي، ودعم الشراكات البحرية متعددة الجنسيات، ومحاولة دمج الصومال في مبادرات أمنية لا تُعلن بالضرورة كجزء من مسارات التطبيع، لكنها تخدم البنية الإقليمية نفسها التي يُعاد تشييدها عبر اتفاقات إبراهيم.
وتذهب الاستراتيجية أيضاً إلى ضرورة منع نشوب صراعات جديدة في القرن الإفريقي، وتذكر مثالاً مباشراً: إثيوبيا–إريتريا–الصومال. هذه الإشارة ليست عرضية، فهي تكشف رؤية أمريكية تعتبر القرن الإفريقي امتداداً للأمن الشرق أوسطي، وأن أي صراع في هذا المثلث يمكن أن يهدد الملاحة في البحر الأحمر ويعطل مشاريع الطاقة والنقل التي تعتبرها واشنطن محورية في تنافسها مع الصين وتركيا وإيران. وهنا يظهر مرة أخرى البعد الثنائي للصومال: فهو جزء من منظومة الأمن الإفريقي من جهة، ومن الأمن العربي–الإسلامي من جهة أخرى، ما يجعله نقطة تقاطع استراتيجية تحتاجها واشنطن لضبط توازنات الإقليمين.
كما أن التنافس الدولي يلعب دوراً حاسماً في إعادة تموضع واشنطن تجاه الصومال. فالصين تبحث عن موطئ قدم في الموانئ والبنى التحتية، وتركيا تعمق حضورها الاقتصادي والعسكري، والإمارات والسعودية تستثمران بكثافة في الموانئ والطاقة والزراعة. كل هذا يضع الصومال في صلب صراع نفوذ عالمي، ويجعل من غير الممكن للولايات المتحدة أن تتعامل معه بوصفه مجرد دولة هامشية أو ساحة مكافحة إرهاب تقليدية. فواشنطن، إذا أرادت أن توازن هذا الحضور الدولي المتعدد، مضطرة إلى صياغة علاقة أكثر وضوحاً مع مقديشو، تشمل الاستثمار، والأمن البحري، والشراكات الإقليمية، وربما مشاريع مرتبطة بالموانئ والطاقة.


