لم تكن مقديشو يومًا مجرد مدينة عادية كغيرها من المدن الصومالية على ساحل المحيط الهندي. إنها كانت المدينة التي اختزنت عبر القرون ذاكرة الصوماليين وهويتهم، بفضل موقعها الفريد في قلب شبه الجزيرة الصومالية، أو ما يُعرف اليوم بالقرن الأفريقي. وقد حافظت على هذه المكانة عبر الممالك والسلطنات، مرورًا بالحقبة الاستعمارية الإيطالية والبريطانية، ووصولًا إلى دولة الاستقلال وما بعدها.
غير أن مكانة العاصمة، التي كانت تُعدّ من المسلمات، تعرّضت خلال العقدين الماضيين لأول هزّة حقيقية أثناء عملية صياغة الدستور المؤقت. فقد ظهر — بدافع التحريض السياسي حينًا، وبفعل التنافس القبلي حينًا آخر — من يشكك في شرعية مقديشو كعاصمة للدولة الفيدرالية الجديدة.
وذهبت بعض الأصوات إلى حد الادعاء بأن مقديشو لا تصلح أن تكون عاصمة وطنية لأنها — كما يقولون — «مدينة لقبيلة واحدة». وفي المقابل، ظهر خطاب آخر لا يقل تشددًا، يطالب بأن يحصل أهل مقديشو على وضع ولاية فدرالية خاصة بهم ، مستقلة على غرار الولايات القائمة.
وهنا أيضًا برزت أفكار متطرفة من نوع آخر؛ إذ رأى أصحابها أن على القبيلة الأكثر عددًا في المدينة أن تتولى تمثيل مقديشو سياسيًا وحدها، فيما يكتفي الآخرون بالسكن والعمل دون أن يكون لهم رأي في إدارة المدينة. بل إن البعض ذهب إلى الزعم بأن القبيلة المهيمنة على مقديشو كانت الأكثر استفادة خلال سنوات غياب الدولة، وأن ازدهار المدينة يعود إليها وحدها— وهي قراءة تختزل مدينة بحجم مقديشو في منظور قبلي ضيق.
في عمق هذه السجالات يكمن خلل ثقافي خطير: الحسد. وهو داء لا يقتصر في الصومال على الأفراد، بل يتمدد إلى القبائل والمجموعات السياسية، فكثيرًا ما يكون رد فعلنا تجاه النجاح الذي لسنا جزءا فيه هو السعي إلى هدمه، حتى “نتساوى جميعًا في الفشل”.
وللأسف، فإن ثقافة الحسد تسمّم جوانب كثيرة من الحياة الصومالية، وقد تدفع الأفراد — أو مجموعات كاملة — إلى إيذاء أنفسهم فقط لحرمان خصومهم.
مثل قصة الرجلين الجائعين اللذين تقاتلا على قطعة لحم في زمن مجاعة. رفض كلٌّ منهما اقتسامها، حتى ظهر ذئبٌ جائع. فرمى أحدهما اللحم للذئب نكايةً بخصمه، فالتهمها الذئب. ومات الرجلان جوعًا — ثم عاد الذئب وأكلهما معًا.
وتحمل الحكايات الشعبية الصومالية الكثير من الرموز التي تصف هذه النزعة. فهناك مثلًا قصة القبيلتين اللتين مات رجالهما في الحرب فدخل بعضهم الجنة والآخرون النار، لكن الداخلين إلى الجنة احتجّوا قائلين: «لا يجوز أن ينفرد خصومنا بالنار! نريد نصيبنا منها!» وهكذا — بإرادتهم — هبطوا إلى الجحيم.
هذه القصص تحمل بعدًا رمزيًا يصف بدقة كيف يمكن للحسد والضغينة أن تدفع الإنسان — أو الجماعات — إلى خيارات تدميرية لا تخدم إلا خصومهم.
وبعيدًا عن هذه الحكايات، تبقى الحقيقة أن مقديشو ليست مجرد تجمع سكاني؛ فهي المدينة الصومالية الوحيدة التي احتضنت عبر القرون جميع القبائل، الأصلية منها والوافدة. وهي رمز ثقافي وروحي وسياسي لا يمكن حصره في منطق الغلبة أو الحسابات القبلية.
ومن هنا يجب أن يُدار النقاش حول مكانة مقديشو ودورها بعقلانية وهدوء. فمعظم ما كان يجمع الصوماليين سياسيًا تبعثر تحت وطأة الخصومات، ولم يتبقَ لنا إلا رمزان وطنيان كبيران يوحداننا: العلم الأزرق ومدينة مقديشو. وإذا تحوّلا إلى مادة للصراع، فإن فكرة الدولة الصومالية نفسها تصبح مهددة.


-1024x576.png&w=3840&q=85)