تشهد العاصمة الصومالية مقديشو اليوم إطلاق أول انتخابات بلدية مباشرة منذ أكثر من خمسين عامًا، في خطوة تمثل تحولًا استراتيجيًا في مسار بناء مؤسسات الحكم المحلي وتعزيز المشاركة الديمقراطية.
ولا تقتصر أهمية هذه الانتخابات على كونها إجراءً إداريًا أو استحقاقًا محليًا، بل تتجاوز ذلك لتشكل محطة سياسية مفصلية تعكس التزام الدولة الفيدرالية بتكريس مبادئ الحكم الرشيد، وتفعيل الدور المباشر للمواطنين في صنع القرار المحلي ضمن الإطار الدستوري.
منذ انهيار الدولة المركزية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، خضعت إدارة العاصمة لترتيبات مؤقتة ذات طابع سياسي وقبلي، بعيدة عن الإرادة الشعبية المباشرة. وقد أفضى ذلك إلى تهميش أجيال كاملة من المشاركة السياسية، وإضعاف شرعية المؤسسات المحلية في نظر المواطنين. واليوم، تتيح الانتخابات المباشرة فرصة حقيقية لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وترسيخ نموذج انتخابي شفاف يمكن أن يشكل أساسًا لتوسيع التجربة الديمقراطية في الولايات الفيدرالية الأخرى.
ويأتي هذا الاستحقاق في ظل تحسن ملموس في الوضع الأمني داخل العاصمة، ما مكّن الحكومة من تنفيذ خطة أمنية متكاملة لضمان بيئة انتخابية مستقرة. وشملت الخطة انتشارًا واسعًا للقوات الأمنية لتأمين مراكز الاقتراع والمناطق المحيطة بها، إلى جانب تشديد الرقابة على المنافذ الحيوية للمدينة. ويعكس ذلك تطور قدرة الدولة الفيدرالية على إدارة عمليات سياسية معقدة في بيئة أمنية حساسة، بما يعزز مصداقية العملية الانتخابية داخليًا وإقليميًا.
على المستوى الفيدرالي، تعكس انتخابات مقديشو تطور العلاقة بين الحكومة المركزية والولايات، وتؤكد التزام الدولة بتفعيل الصلاحيات الدستورية للمؤسسات المحلية وترسيخ مبادئ الحوكمة الرشيدة. ويمكن لنجاح هذه التجربة في العاصمة أن يشكل نموذجًا عمليًا لتوسيع نظام الحكم المحلي، وتعزيز الديمقراطية على مستوى الولايات الأخرى، مع التركيز على سيادة القانون، والمساءلة، وضمان مشاركة عادلة لمختلف المكونات الاجتماعية والسياسية.
إقليميًا، تحمل الانتخابات رسالة واضحة إلى دول الجوار والمنظمات الإقليمية، مفادها أن الصومال بات قادرًا على إدارة استحقاقات سياسية بطريقة منظمة وشفافة، رغم التحديات الأمنية والسياسية الممتدة. كما يعزز نجاح العملية الانتخابية مكانة الصومال كشريك فاعل في استقرار القرن الإفريقي، وداعم لجهود التعاون الإقليمي في مجالات الأمن والتنمية ومكافحة الإرهاب.
أما دوليًا، فتُعد الانتخابات معيارًا مهمًا لقياس مصداقية الدولة أمام شركائها، ولا سيما المانحين والداعمين للعملية السياسية. ويعكس نجاحها قدرة الصومال على استعادة مؤسسات ديمقراطية فعالة، وحماية حقوق المواطنين، وإدارة الشأن العام وفق معايير الشفافية والنزاهة، ما يسهم في تحسين صورة الدولة، وتعزيز ثقة المستثمرين والمجتمع الدولي، وتوسيع آفاق التعاون التنموي والاقتصادي.


