استيقظ سكان مقديشو باكرًا، اصطفوا في طوابير هادئة، وقاموا بشيء لم تتح لأغلب آبائهم، بل ولا لأجدادهم، فرصة القيام به في مدينتهم يومًا: أدلوا بأصواتهم.
لا جنود يفرضون اتجاهًا، ولا شيوخ يعقدون صفقات في الغرف المغلقة. مواطنون عاديون توجهوا إلى مراكز الاقتراع، ووضعوا علامة على ورقة تصويت. قد يبدو الأمر بسيطًا، لكنه احتاج إلى 57 عامًا ليصبح ممكنًا.
لهذا السبب، ترددت عبارة واحدة في شوارع العاصمة، من الأحياء الساحلية إلى الأسواق الداخلية: من الرصاص إلى صناديق الاقتراع. لم تكن مجرد كلمات، بل إحساسًا جماعيًا ملموسًا. فمقديشو عاشت عقودًا من الحكم العسكري، والحرب الأهلية، والعنف المتطرف، والتسويات السياسية التي كانت تُصاغ بعيدًا عن الناس الذين يتحملون نتائجها. وحين اختار المواطنون مجلس مدينتهم بأيديهم، لم يكن ذلك مجرد اقتراع محلي، بل قطيعة نفسية مع الماضي.
كان الفخر ظاهرًا على الوجوه. تحدث الناخبون عن الكرامة. بعضهم مازح نفسه بقلق وهو يتأكد من وضع العلامة في المكان الصحيح. آخرون حملوا أطفالهم ليشهدوا كيف يكون التصويت الحقيقي. بعد سنوات طويلة كان فيها الوصول إلى السلطة يتم بالقوة، بدا صوت الورقة وهي تنزلق داخل الصندوق أعلى وقعًا من طلقات الرصاص.
بالطبع، انتخابات واحدة لا تحل كل شيء. مقديشو ما تزال مدينة هشة. حركة الشباب لا تزال تحاول تعطيل الحياة. الخلافات السياسية قائمة. لكن هذه الانتخابات مهمة لأنها تكشف حقيقة يصعب التراجع عنها: حين يختبر الناس صوتهم بأيديهم، نادرًا ما يتنازلون عنه.
الرئيس حسن شيخ محمود تعهّد بتطبيق الاقتراع العام، «شخص واحد، صوت واحد». وهذا التعهد خضع اليوم لأول اختبار حقيقي في شوارع مقديشو. الفكرة بسيطة في جوهرها: إنهاء صيغ الاختيار غير المباشر، والتخلي عن نظام المحاصصة القبلية، وعدم ترك مصير الملايين بيد قلة من المندوبين. وإذا تمكنت الصومال من تنظيم انتخابات وطنية مباشرة العام المقبل، فسيكون ذلك أول اقتراع من نوعه منذ أجيال.
المشككون يطرحون أسئلة مشروعة: هل النظام جاهز؟ هل الوضع الأمني يسمح؟ هل ستقبل النخب السياسية فعلًا بحكم الصندوق؟ هذه المخاوف واقعية، وإنكارها استخفاف بعقول الناس. تنظيم الانتخابات في بلد يخرج من الحرب عملية معقدة ومكلفة، وستكون هناك أخطاء ونزاعات ومحاولات للتلاعب، وأماكن لا تسير فيها الأمور كما هو مخطط.
لكن هناك سؤالًا آخر لا يقل أهمية: ماذا لو لم تحاول الصومال؟
لسنوات طويلة، كانت السياسة حكرًا على دائرة ضيقة من صناع النفوذ. وربما كان النظام القَبَلي ضرورة في مرحلة ما للحفاظ على الحد الأدنى من التماسك، لكنه كافأ الولاء بدل الكفاءة، والصفقات بدل المساءلة. حين يُختار القادة بشكل غير مباشر، لا يستطيع المواطن معاقبة الفشل. وحين لا يخشى القادة الناخبين، تتآكل المسؤولية.
المدن هي المكان الذي تتشكل فيه العادات الديمقراطية. الناس يصوتون على قضايا ملموسة: النظافة، الطرق، الأمن، المدارس. يقيمون المسؤولين بناءً على ما ينجزونه، لا على أسمائهم أو أنسابهم. وإذا باتت المجالس البلدية تُنتخب وتُستبدل عبر صناديق الاقتراع، فإن الصومال تبدأ ببناء «عضلات» ديمقراطية غابت لعقود. فالمساءلة لا تُبنى بالخطب، بل بالتكرار.
هناك أيضًا تحول ثقافي عميق، وإن بدا صامتًا. أجيال شابة نشأت على قصص الماضي، بدأت اليوم تصنع تجربتها الخاصة في الحياة العامة. يمكنها أن تناقش السياسات، تنتقد المسؤولين، ثم تعود إلى منازلها دون خوف. هكذا ينمو النضج السياسي.
لا شيء من هذا يضمن النجاح. الانتخابات وحدها لا تصنع العدالة ولا القيادة الرشيدة. وإذا أُديرت الاستحقاقات المقبلة بسوء، أو استشرى الفساد، أو رفض الخاسرون النتائج، فسيكون الضرر كبيرًا. الثقة، حين تُكسر، تحتاج سنوات لتُرمم. ولهذا تقع على عاتق الحكومة مسؤولية جسيمة: الشفافية، والتواصل الواضح، وحماية كل مركز اقتراع كما لو كان ثروة وطنية.
كما أن على قوى المعارضة أن تختار طريقها: إما المشاركة والمنافسة، أو محاولة تقويض العملية خوفًا من حكم الناس. والتاريخ لا يرحم من يمنع المواطنين من حقهم في التصويت. فالسلطة المبنية على الإقصاء تبدو قوية… حتى تنهار.


