أكتب هذا المقال لا بصفتي مراقبًا من بعيد، بل كشخص كان في قلب النقاشات الانتخابية في الصومال. بوصفي مفوضًا سابقًا في اللجنة الانتخابية، قضيت سنوات أدافع عن مبدأ «صوت واحد لكل مواطن» في بلد اعتُبرت فيه هذه الفكرة طويلاً متهورة أو سابقة لأوانها، بل ومستحيلة أحيانًا. وكم مرة سمعنا الحجج ذاتها: الوضع الأمني هش، المؤسسات ضعيفة، المجتمع منقسم، والصوماليون غير مستعدين.
لهذا السبب تحديدًا، تكتسب الانتخابات الأخيرة أهمية خاصة بالنسبة لي، ليس سياسيًا فحسب، بل على المستوى الشخصي أيضًا.
نعم، وُجّهت انتقادات إلى هذه الانتخابات، وهو أمر طبيعي في أي تجربة ديمقراطية. غير أن النقد لا بد أن يُقرأ في سياقه. فما حدث لم يكن ولادة ديمقراطية مكتملة، بل كسرًا لحاجز نفسي وسياسي ظل قائمًا لعقود. وللمرة الأولى منذ زمن طويل، أُجيب عن سؤال «هل التصويت المباشر ممكن في الصومال؟» بالفعل العملي، لا بالجدل النظري.
لسنوات، ظل المشهد السياسي الصومالي حبيس حذرٍ دائم قُدِّم على أنه واقعية. تحولت المخاوف الأمنية، والحساسيات القبلية، وهشاشة المؤسسات إلى ذرائع جاهزة لتأجيل الانتخابات المباشرة إلى أجل غير مسمى. ومع مرور الوقت، ترسّخت هذه الذرائع كحقائق لا تُناقش. ما أنجزته الانتخابات الأخيرة، رغم عيوبها، هو تفكيك هذه المسلّمات، ونقل النقاش من «هل يمكن؟» إلى «كيف نُحسِّن؟». وهذا التحول وحده يمثل نقلة نوعية في التفكير السياسي.
ومن واقع خبرتي داخل المنظومة الانتخابية، أؤكد أن الديمقراطية لا تولد مكتملة. إنها تُبنى عبر التجربة والخطأ، والمراجعة والتصحيح، ثم المثابرة. توقع انتقال الصومال من نظام سياسي غير مباشر تتحكم فيه النخب إلى انتخابات شعبية مثالية في خطوة واحدة، هو تجاهل للتاريخ ولمنطق التطور السياسي. حتى أعرق الديمقراطيات احتاجت عقودًا من التجارب الناقصة قبل أن تبلغ نضجها المؤسسي.
ومن النتائج المهمة التي لم تحظَ بما تستحقه من اهتمام، الرسالة التي بعثت بها هذه الانتخابات بشأن السيادة والاعتماد على الذات. لطالما صُوِّرت الانتخابات في الصومال على أنها مستحيلة من دون تمويل وإدارة خارجية كثيفة. لكن هذه المرة، مضت العملية إلى الأمام من دون أن يفرض الدعم الخارجي إيقاعها أو بنيتها. وهذا بحد ذاته يدحض افتراضًا راسخًا حول عجز الدولة، ويؤكد أن الشرعية لا تُستورد، بل تُصنع داخليًا.
ولا يقل أهمية عن ذلك فعل المشاركة نفسه. اصطفاف المواطنين في طوابير، تعريفهم بأنفسهم كناخبين، وإدلاءهم بأصواتهم، قد يبدو إجراءً عاديًا في الدول المستقرة، لكنه في الدول الهشة فعلٌ تحويلي. فهو يعيد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة، ويؤسس لشرعية لا تقوم فقط على توافقات النخب، بل على حضور الناس أنفسهم في عملية الحكم.
إن كثيرًا من الرفض لفكرة الانتخابات المباشرة لا ينبع من مبدأ، بل من الخوف من التغيير. فالتصويت المباشر يعيد توزيع السلطة، ويضعف الوسطاء السياسيين، ويقوّض أنظمة قائمة على التفاوض بدل التمثيل. لذلك كان الاعتراض متوقعًا. لكن المعارضة من دون بديل ليست قيادة. وإذا رأى المنتقدون أن هذه التجربة غير كافية، فعليهم أن يقدموا نموذجًا أكثر ديمقراطية وشمولًا ومصداقية، لا أن يدعوا إلى العودة إلى حالة الجمود.
ولا يعني هذا تجاهل التحديات القائمة. فالمخاطر الأمنية ما زالت حاضرة، والمؤسسات بحاجة إلى تقوية، والأطر الانتخابية تحتاج إلى تطوير وتوسيع ووضوح قانوني. لكن التقدم لا يُقاس بغياب العيوب، بل بالإصرار على المضي قدمًا رغمها.




